الأطلنتيد والأدلة الحفرية


كانت قراءات كايسي بشأن الأطلنطيد أقرب إلى التيار الكارثي في الجيولوجيا الذي يتنامى اليوم بشكل مدهش. أما فيما يتعلّق بالحفريات، فقراءاته حول أصول البشرية والهجرات المتوالية لسكان الأطلنطيد عبر الأرض لا تزال تتحدى الحفريات الرسمية كما كانت تدرَّس في برامج التعليم في عصره. وفي معظم قراءاته، يتحدث عن هجرات أطلنطية نحو أميركا الشمالية والجنوبية ونحو أوروبا وأفريقيا عبر الفترات التاريخية التي شهدت الانهيار التدريجي للأطلنطيد. يقول (ص 142): "سوف نكتشف يومًا أدلة عن وجود آثار الحضارة الأطلنطية المفقودة في البيرينيه والمغرب من جهة والهندوراس ويوكاتان في المكسيك وفي أميركا من جهة أخرى" (16 فبراير 1932). فهل ثمة أدلة حفرية تحيل إلى هجرات جماعية في الفترات التي ذكرها؟ يعتبر الدكتور أليس ردليكا، صاحب الحفريات الرسمية في أميركا، أن وجود البشر في أميركا يعود إلى فترة تمتد إلى 3000 سنة. والسكان الأصليون لأميركا الشمالية (الهنود الحمر) هم في الحقيقة من أصول منغولية جاؤوا من آسيا الوسطى ليستقروا في أميركا الشمالية. وبقيت نظرية ردليكا سارية حتى 1926 عندما عثر أحد رعاة البقر في فولسوم في النيومكسيك في الولايات المتحدة على بقايا سهم بالقرب من بقايا عظام أبقار متوحشة انقرضت حوالي 8000 ق. م.. وبالموازاة مع هذا الاكتشاف الحفري، وجد علماء الحفريات بقايا أخرى في المنطقة. كما وجدت بقايا أسهم في كلوفيس يعود عمرها إلى حوالي 10000 ق. م.. ورغم هذه الاكتشافات الهامة ظل ردليكا متمسكًا بموقفه حول وجود بشري في فترة قصيرة (حوالي 2000 ق. م.). لكن آراء علماء الحفريات بدأت تختلف ابتداءً من 1940 عندما جمعت أدلة كافية حول هجرات جماعية نحو أميركا الشمالية والجنوبية بين 9000 و10000 ق. م.، وهي الفترة التي اعتبرها كايسي الانهيار النهائي للأطلنطيد، وأكدت الحفريات تصاعدًا مدهشًا لهجرات جماعية وانخفاضًا حساسًا في عدد الحيوانات الضخمة التي وجدت في المنطقة بسبب تقنيات الصيد المستعملة وتغير المناخ، فضلاً عن وجود بقايا آثار مذهلة بنيت وصوِّرت بصورة هندسية دقيقة، يستحيل أن تكون قد شيِّدت بآليات بدائية تجهل الأبعاد الرياضية والجغرافية والحسابات الفلكية في تصميم هذه المركبات الأثرية. وغالبًا ما نجد هذه الآثار في البيرو، مهد حضارة الإنكا، وفي المكسيك التي ترعرعت فيها حضارة المايا. يركِّز كايسي على ثلاث مناطق يعتبرها مفاتيح هامة في حل أقفال التراث الأطلنطي المتمثل في أرشيفات أودعها المنحدرون من هذه الحضارة: مصر (مركب الجيزة) والباهاماس (جزيرة بيميني) والمكسيك (شبه جزيرة بوكاتان). ويعتبر الكتاب أنه في سنة 1930 وجدت آثار مروعة في المكسيك لم يكشف عن هويتها وتم نقلها إلى الولايات المتحدة دون إعطاء إجابات استفسارات حول هذا الاكتشاف.
وبشأن حضور أطلنطي في أرض مصر، تم تأليف مئات الكتب كما تم القيام بالمئات من البحوث الحفرية. ومعظم قراءات كايسي ركَّزت على أرض الفراعنة في تبيان وجود آثار أطلنطية لم يكشف عنها بعد وهي على وشك الظهور بفضل التنقيبات الحفرية المتواصلة في مركب الجيزة. وقراءاته هنا تختلف طبعًا عن علم المصريات الحديث في تعليمه وتأريخه والمعطيات الحفرية والتاريخية التي بدأت اليوم تشكِّك صراحةً في سلطة التأريخ الحفري والأثري لمعالم الجيزة كما يقدِّمها علم المصريات. فضلاً عن فقد العديد من الأرشيفات والمعالم في هذا المجال بسبب عوامل كثيرة منها عامل الزمن والأخبار المتناقضة المتداولة ومعالم مسروقة أو مشوهة، إلخ. فلا يمكن، بهذه القطع المتناثرة، كتابة تاريخ كامل ومتكامل لمصر القديمة لا تزال كتابته مفتوحة أمام معطيات جديدة واكتشافات مدهشة لمعالم وآثار أخرى وتنقيبات متواصلة وانتقادات ومراجعات مستمرة. فالتاريخ، في هذا المضمار، عبارة عن احتمال وافتراض لا يضفي على معطياته وأحداثه الإطلاقية والوثوقية. ورغم هذه النسبية التي تضفيها على تاريخ مصر القديمة، يتمادى علماء المصريات في اعتبار اكتشافاتهم وكتاباتهم لأحداث مصر الفرعونية وكأنها نهائية ومغلقة حيث يرفضون كل التأويلات والقراءات المتعارضة مع اقتناعاتهم وفروضهم التاريخية. لكن عندما تطرح بعض الأسئلة المزعجة فهنا ترتبك العقول: من بنى أهرام الجيزة؟ في أي عصر؟ كيف تم بناؤها؟ لماذا بنيت أو ما الهدف من تشييدها؟ والجواب الرسمي هو: أول من بنى الهرم الكبير هو خوفو في العهد الملكي الرابع سنة 2700 ق. م. ليكون قبرًا للفراعنة. لكن، كما يقول ويليام فيكس في كتابه القيِّم الهرم الكبير والأطلنطيد، فالجواب أكثر تعقيدًا وصعوبة من السؤال نفسه، لأن ثمة أدلة حفرية وجيولوجية تشكِّك أصلاً في تاريخ بناء الهرم الكبير إذا سلَّمنا أيضًا أنه لم توجد أي مومياء في هذا الهرم، كما أن الكيفية التي بني بها تتحدى كل تفسير ساذج حول استعمال وسائل بسيطة في بناء هرم يتركَّب من حجارة مستطيلة يصل وزن الواحد منها إلى 70 طنًا بينما يصل وزن الهرم كله إلى 6 ملايين طن! وفضلاً عن الوزن، هناك الأبعاد الجغرافية والفلكية في بناء الهرم الكبير وكأنه بني باستعمال كمبيوتر دقيق، من ذلك وجود مركب الجيزة في خط 30ْ طول – عرض في وسط الأبعاد الجغرافية للأرض، وفي قمة المثلث المشكِّل لدلتا النيل. ودراسات روبرت بوفال في كتابيه أسرار الجوزاء وأسرار أبي الهول تبين إلى أي مدى يرتبط مركب الجيزة، من وجهة نظر فلكية وأستروفيزيائية، بمجرة الجوزاء. وكل الحسابات الجغرافية والفلكية المعقدة التي أدرجها بوفال، وأيضًا ميكائيل ويلز ماندفيل في كتابه الضخم عودة العنقاء، تتحدى التفسير الساذج حول بناء الأهرام.
والأبحاث الحفرية الجارية في مصر لا تزال تكشف عن خبايا وأسرار تجعل من العسير الخروج بأفكار تاريخية متفق عليها، فضلاً عن أن مناطق عديدة هنا لم يصلها الحفر الأركيولوجي. لكن استعمال آليات متطورة وتكنولوجيا راقية (أشعة تحت الحمراء، ذبذبات صوتية، كاميرا مصغرة، إلخ) ساعد علماء المصريات في المضي قدمًا نحو الاكتشاف الحفري لآثار مطموسة، وبالتالي نحو تدعيم أو تفنيد افتراضات وتخمينات متعددة حول أصول وتواريخ المعالم المتواجدة على طول نهر النيل. إن قراءات كايسي تركِّز أساسًا على بناء أبي الهول والهرم الكبير (قبل ما يقارب الـ12000 سنة) وآثار أخرى لا تزال مطموسة تحت مركب الجيزة. والغريب في الأمر أن نصوص عبد القادر بن محمد المقريزي المسعودي (ت:957) في أخبار الزمان تتطابق مع قراءات كايسي مثلها مثل نصوص أفلاطون، مع أن كايسي لم يكن على علم بوجود أفلاطون ولا المقريزي: يعتبر المقريزي أن أحد ملوك مصر قبل الطوفان قام ببناء الأهرام. فقد رأى هذا الملك في المنام أن الأرض تأرجحت والنجوم سقطت تحت أعين البشر الباحثين عن المفر. لهذا السبب قام ببناء الأهرام ليودع فيها علومًا وأسرارًا بعد استشارة منجمين وعلماء كانوا على علم بحدوث انقلاب جيوفيزيائي هام. وابن بطوطة (1304 – 1378) من جانبه يتحدث عن هرمس كمهندس بارع، صاحب الهرم الكبير، شيَّده بفنونه وعلومه الغزيرة. وقراءات كايسي تحيل بشكل مدهش إلى كل هذه الأخبار التي أوردها المؤرخون والرحالة المسلمين والعرب، وتركز على أربع نقاط أساسية:
1.    هجرات أطلنطية نحو مصر؛
2.    اكتشاف أهرام أخرى مطمورة تحت الأرض؛
3.    الأرشيفات التي أودعها الأطلنطيون تحت مركب الجيزة؛
4.    التاريخ الحقيقي حول بناء بعض المعالم الأثرية في مصر.
وحسب كايسي، كان سكان الأطلنطيد على علم بالانهيار الأخير الذي قوَّض حضارتهم، وقبل حدوث الفاجعة قاموا بالهجرة نحو مناطق مختلفة من العالم. والوجهة التي ارتضوها لإيداع وثائقهم وأرشيفاتهم في مأمن من الضياع والهلاك هي مصر. فبناء الأهرام كان في الحقيقة معلمًا عظيمًا ومهيبًا بقدر ما يثير الانتباه والفضول المعرفي والعلمي، فإنه يفرض في الوقت ذاته سلطة قاهرة تحول دون المساس بهذه المعالم لاحتوائها على ذاكرة البشرية التي سيتم يومًا ما الكشف عنها وسبر أغوارها. ويتحدث كايسي عن وجود غرفة أو هرم تحت الأرض بين أبي الهول ونهر النيل يحتوي على أرشيفات أطلنطية سيتم الكشف عنها قريبًا. وأبو الهول هو في نظره مجرد حارس الذاكرة البشرية المطمورة تحت كفوفه. وتحت أبي الهول ثمة رواق يؤدي إلى غرفة الأرشيفات. وبناء الأهرام وأبي الهول تم خلال مائة سنة (من 10490 إلى 10390 ق. م.)، وصاحب هذا البناء الجبار هو هرمس (كما يقول ذلك أيضًا ابن بطوطة). وتكون قراءات إدغار كايسي قد زرعت روح المبادرة والبحث في عشرات الباحثين في الحفريات والجيولوجيا لاستقصاء مواقع أخرى من مركب الجيزة بأجهزة تكنولوجية راقية تفاديًا لانهيار المعالم والآثار. وباستعمال هذه الأجهزة تم فعلاً اكتشاف تجاويف مستطيلة تحت أبي الهول لم تستكشف بعد أشرف عليها معهد البحوث "ستاتفورد". وحسب المؤرخ أوغست مارييت، باعتماده على وثيقة اكتشفها بالقرب من الهرم الكبير، يكون خوفو (المهندس المسؤول عن بناء الهرم) قد وجد معبدي إيزيس وأبي الهول قد تآكلا بعوامل الزمن والمناخ فقام بإصلاحهما. الوثيقة التي عثر عليها مارييت تسلِّم مبدئيًا بقدم التمثال أبي الهول. والجيولوجي جوزيف شوش (جامعة بوسطن) برهن بأدلة جيولوجية (دعَّمها أشهر الجيولوجيين في مؤتمر عالمي انعقد سنة 1992) أن أبا الهول، المنحوت في نتوء صخري طبيعي، يحمل علامات بارزة لتعدية أو لتآكل شديد سببه الهواطل. وهذه العلامات تتفق مع الأمطار الغزيرة الجارفة التي سقطت شرق الصحراء حوالي 8000 ق. م.. وفي المؤتمر الجيولوجي العالمي، أقرَّ شوش بأن أبا الهول أقدم زمنًا مما كنا نظن، وقال بأنه يترك لعلماء الحفريات وللمؤرخين عناية الحصول على أدلة قاطعة عن التاريخ الحقيقي لبناء الأهرام وتمثال أبي الهول. ودعم الجيوفيزيائي الشهير توماس دوبيكي (جامعة هوستن) تحليلات شوش عندما قام بدراسة حالة الرواسب المحاطة بأبي الهول كما كشف عن وجود انحرافات وتجاويف في القاعدة الصخرية الموجودة بين كفوف أبي الهول وعلى مدى الخواصر. واكتشاف دوبيكي يدعم نظريًا تحليلات شوش، والتقرير الذي أعدَّه معهد البحوث بستافورد حول وجود انحرافات وتجاويف تحت مركب الجيزة. ويبقى المشكل في إقناع المؤسسات العلمية العالمية بقبول قراءات وتأويلات نقدية تثوِّر الحفريات في ميدان علم المصريات عوض الركون إلى بداهات إطلاقية ووثوقية تعيق مسار ومسيرة هذا الفرع من العلم.
فضلاً عن مركب الجيزة، يتحدث إدغار كايسي عن أرخبيل الباهاماس وخصوصًا جزيرة بيميني كمعلم أطلنطي هائل. ففي سنة 1968 (حددها كايسي لعودة الأطلنطيد) قام طياران، آدامس وبروش، باكتشاف معالم خلابة تشبه قواعد بناء معماري تحت بحري. وبعدها قام كل من فالونتين وريبيكوف بالتقاط صور عديدة لهذا المعلم الشبيه بآثار محطمة وأعمدة جبارة يتوسطها شارع واسع. وقام هؤلاء المكتشفون بتأسيس معهد البحوث في الحفريات البحرية Mars لمواصلة التنقيب عن آثار أخرى. لكن ويمان هاريسون وجون جيفورد، بعد دراسات جيولوجية وحفرية معمقة حول المعلم، توصلا إلى أن الآثار هي في الحقيقة عبارة عن رواسب طبيعية توهم بأنها من صنع الإنسان. ورغم هذه المعاينة، واصل جيولوجيون عدة طريقهم نحو دراسة الآثار المكتشفة، وعلى رأسهم ديفيد زينك الذي استعمل وسائل أكثر تطورًا في دراسة واستقصاء المعالم تحت البحرية التي وجدها تستجيب لحساب هندسي دقيق وليس مجرد مركبات طبيعية. والاكتشاف الباهر الذي حقَّقه زينك هو عثوره على شكل يشبه رأس الإنسان منحوت على أحد هذه المعالم، لكن حماسه للأطلنطيد أعطى لجهوده العلمية طابعًا أسطوريًا في أعين علماء الحفريات الأورثوذكسيين. ولا شك أن العمل الميداني الذي قام به كان جبارًا ومفيدًا للباحثين، لكنه لا يكفي، رغم غزارته ودقته، في تحديد أصول المعالم المكتشفة. ينبغي إذن مواصلة البحث وصياغة خرائط تحت بحرية أكثر دقة وتفصيلاً لتسهيل عملية دراسة الآثار والعالم المحيطة بجزر الباهاماس.

المراجع:   
 إدغار كايسي، آراء إدغار كايسي حول الأطلنطيد، نيويورك 1968.

التعليقات
0 التعليقات

Enregistrer un commentaire

جميع الحقوق محفوظة تاريخ المغرب القديم ©2015| ،.Privacy-Policy| إتفاقية الإستخدام